الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.فصل: [في إطلاق حكم الله على مسائل الاجتهاد]: لا يسوغ إطلاق حكم الله على مسائل الاجتهاد إلا ما علم حكم الله فيه يقينا.وقوله فإن سألوك على أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا فيه حجة ظاهرة على أنه لا إطلاق حكم الله على ما لا يعلم العبد أن الله حكم به يقينا من مسائل الاجتهاد كما قال بعض السلف ليتق أحدكم أن يقول أحل الله كذا أو حرم كذا فيقول الله له كذبت لم أحل كذا ولم أحرمه.وهكذا لا يسوغ أن يقول قال رسول الله لما لا يعلم صحته ولا ثقة رواته بل إذا رأى أي حديث كان في أي كتاب يقول لقوله أو لنا قوله:وهذا خطر عظيم وشهادة على الرسول بما لا يعلم الشاهد.وكذلك لا يسوغ له أن يخبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله بما لم يخبر به سبحانه عن نفسه ولا أخبر به رسوله عنه كما يستسهله أهل البدع بل لا يخبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله إلا بما أخبر به عن نفسه وأخبر به رسوله عنه.وإذا كان النبي قد منع الأمير أن ينزل أهل الحصن على حكم الله وقال لعلك لا تدري أتصيبه أم لا فما الظن بالشهادة على الله والحكم عليه بأنه كذا أو ليس كذا والحديث صريح في أن حكم الله سبحانه في الحادثة واحد معين وأن المجتهد يصيبه تارة ويخطئه تارة وقد نص الأئمة الأربعة على ذلك صريحا.قال أبو عمر بن عبدالبر ولا أعلم خلافا بين الحذاق من شيوخ المالكيين ثم عدهم ثم قال كل يحكي أن مذهب مالك في اجتهاد المجتهدين والقائسين إذا اختلفوا فيما يجوز فيه التأويل من نوازل الأحكام أن الحق من ذلك عند الله واحد من أقوالهم واختلافهم إلا أن كل مجتهد إذا اجتهد كما أمر وبالغ ولم يأل وكان من أهل الصناعة ومعه آلة الاجتهاد فقد أدى ما عليه وليس عليه غير ذلك وهو مأجور على قصده الصواب وإن كان الحق من ذلك واحدا.قال وهذا القول هو الذي عليه أكثر أصحاب الشافعي.قال وهو المشهور من قول أبي حنيفة فيما حكاه محمد بن الحسن وأبو يوسف والحذاق من أصحابهم.قلت قال القاضي عبدالوهاب وقد نص مالك على منع القول بإصابة كل مجتهد فقال ليس في اختلاف أصحاب رسول الله ورضي عنهم سعة إنما هو خطأ أو صواب.وسئل أيضا ما تقول في قول من يقول إن كل واحد من المجتهدين مصيب لما كلف؟ فقال ما هذا هكذا قولان مختلفان لا يكونان قط صوابا.وقد نص على ذلك الإمام أحمد فقال في رواية بكر بن محمد عن أبيه إذا اختلفت الرواية عن النبي فأخذ رجل بأحد.الحديثين وأخذ آخر بحديث آخر ضده فالحق عند الله في واحد وعلى الرجل أن يجتهد ولا يدري أصاب الحق أم أخطأ.واصول الأئمة الأربعة وقواعدهم ونصوصهم على هذا وأن الصواب من الأقوال كجهة القبلة في الجهات وعلى هذا أكثر من أربعين دليلا قد ذكرناها في كتاب مفرد وبالله التوفيق.والمقصود أن قول النبي في حديث بريدة فإنك لا تدري أتصيب حكم الله أن حكم الله واحد وأن المجتهد قد يصيبه وقد يخطئه كما قال في الحديث الآخر إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد.فمن قال كل مجتهد مصيب للأجر بمعنى أنه مطيع لله في أداء ما كلف به فقوله صحيح إذا استفرغ المجتهد وسعه وبذل جهده..فصل: [في أحكام الجزية]: فلنرجع إلى الكلام في أحكام الجزية.قال تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}.فالجزية هي الخراج المضروب على رءوس الكفار إذلالا وصغارا والمعنى حتى يعطوا الخراج عن رقابهم.واختلف في اشتقاقها فقال القاضي في الأحكام السلطانية اسمها مشتق من الجزاء إما جزاءا على كفرهم لأخذها منهم صغارا أو جزاءا على أماننا لهم لأخذها منهم رفقا.قال صاحب المغني هي مشتقة من جزاه بمعنى قضاه لقوله لا تجزي نفس عن نفس شيئا فتكون الجزية مثل الفدية.قال شيخنا والأول أصح وهذا يرجع إلى أنها عقوبة أو أجرة.وأما قوله عن يد فهو في موضع النصب على الحال أي يعطوها أذلاء مقهورين هذا هو الصحيح في الآية.وقالت طائفة المعنى من يد إلى يد نقدا غير نسيئة.وقالت فرقة من يده إلى يد الآخذ لا باعثا بها ولا موكلا في دفعها.وقالت طائفة معناه عن إنعام منكم عليهم بإقراركم لهم وبالقبول منهم والصحيح القول الأول وعليه الناس.وأبعد كل البعد ولم يصب مراد الله من قال المعنى عن يد منهم أي عن قدرة على أدائها فلا تؤخذ من عاجز عنها وهذا الحكم صحيح وحمل الآية عليه باطل ولم يفسر به أحد من الصحابة ولا التابعين ولا سلف الأمة وإنما هو من حذاقة بعض المتأخرين.وقوله تعالى: {وهم صاغرون} حال أخرى فالأول حال المسلمين في أخذ الجزية منهم أن يأخذوها بقهر وعن يد والثاني حال الدافع لها أن يدفعها وهو صاغر ذليل.واختلف الناس في تفسير الصغار الذي يكونون عليه وقت أداء الجزية فقال عكرمة أن يدفعها وهو قائم ويكون الآخذ جالسا.وقالت طائفة أن يأتي بها بنفسه ماشيا لا راكبا ويطال وقوفه عند إتيانه بها ويجر إلى الموضع الذي تؤخذ منه بالعنف ثم تجر يده ويمتهن.وهذا كله مما لا دليل عليه ولا هو مقتض الآية ولا نقل عن رسول الله ولا عن الصحابة أنهم فعلوا ذلك.والصواب في الآية أن الصغار هو التزامهم لجريان أحكام الملة عليهم وإعطاء الجزية فإن التزام ذلك هو الصغار.وقد قال الإمام أحمد في رواية حنبل كانوا يجرون في أيديهم ويختمون في أعناقهم إذا لم يؤدوا الصغار الذي قال الله تعالى: {وهم صاغرون}.وهذا يدل على أن الذمي إذا بذل ما عليه والتزم الصغار لم يحتج إلى أن يجر بيده ويضرب.وقد قال في رواية مهنا بن يحيى يستحب أن يتعبوا في الجزية.قال القاضي ولم يرد تعذيبهم ولا تكليفهم فوق طاقتهم وإنما أراد الاستخفاف بهم وإذلالهم.قلت لما كانت يد المعطي العليا ويد الآخذ السفلة احترز الأئمة أن يكون الأمر كذلك في الجزية وأخذوها على وجه تكون يد المعطي السفلى ويد الآخذ العليا.قال القاضي أبو يعلى وفي هذا دلالة على أن هؤلاء النصارى الذين يتولون أعمال السلطان ويظهر منهم الظلم والاستعلاء على المسلمين وأخذ الضرائب لا ذمة لهم وأن دماءهم مباحة لأن الله تعالى وصفهم بإعطاء الجزية على وجه الصغار والذل.وهذا الذي استنبطه القاضي من أصح الاستنباط فإن الله سبحانه وتعالى مد القتال إلى غاية وهي إعطاء الجزية مع الصغار فإذا كانت حالة النصراني وغيره من أهل الجزية منافية للذل والصغار فلا عصمة لدمه ولا ماله وليست له ذمة ومن هاهنا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه تلك الشروط التي فيها صغارهم وإذلالهم وأنهم متى خرجوا عن شيء منها فلا عهد لهم ولا ذمة وقد حل للمسلمين منهم ما يحل من أهل الشقاق والمعاندة.وسنذكر إن شاء الله في آخر الجواب الشروط العمرية وشرحها..فصل: [في هل الجزية أجرة عن سكنى الدار؟]: ليست الجزية أجرة عن سكنى الدار.قد تبين بما ذكرنا أن الجزية وضعت صغارا وإذلالا للكفار لا أجرة عن سكنى الدار وذكرنا أنها لو كانت أجرة لوجبت على النساء والصبيان والزمني والعميان ولو كانت أجرة لما أنفت منها العرب من نصارى بني تغلب وغيرهم والتزموا ضعف ما يؤخذ من المسلمين من زكاة أموالهم ولو كانت أجرة لكانت مقدرة المدة كسائر الإجارات ولو كانت أجرة لما وجبت بوصف الإذلال والصغار ولو كانت أجرة لكانت مقدرة بحسب المنفعة فإن سكنى الدار قد تساوي في السنة أضعاف الجزية المقدرة ولو كانت أجرة لما وجبت على الذمي أجرة دار أو أرض يسكنها إذا استأجرها من بيت المال ولو كانت أجرة لكان الواجب فيها ما يتفق عليه المؤجر والمستأجر. وبالجملة ففساد هذا القول يعلم من وجوه كثيرة..مقدار الجزية: وقد اختلف أئمة الإسلام في تقدير الجزية فقال الشافعي رحمه الله تعالى ويجعل على الفقير المعتمل دينار وعلى المتوسط ديناران وعلى الغني أربعة دنانير. وأقل ما يؤخذ دينار وأكثره ما وقع عليه التراضي ولا يجوز أن ينقص من دينار.وقال أصحاب مالك أكثر الجزية أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهما على أهل الورق ولا يزاد على ذلك فإن كان منهم ضعيف خفف عنه بقدر ما يراه الإمام.وقال ابن القاسم لا ينقص من فرض عمر رضي الله عنه لمعسر ولا يزاد عليه لغني.وقال القاضي أبو الحسن لا حد لأقلها قال وقيل أقلها دينار أو عشرة دراهم.وقال أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله تعالى يوضع على الغني ثمانية وأربعون درهما وعلى المتوسط أربعة وعشرون وعلى الفقير اثنا عشر:ثم اختلفوا في حد الغني والفقير والمتوسط:قالوا والمختار أن ينظر في كل بلد إلى حال أهله وما يعتبرونه في ذلك فإن عادة البلاد في ذلك مختلفة.وأما الإمام أحمد رحمه الله تعالى فقد اختلفت الرواية عنه فنقل أكثر أصحابه عنه أنها مقدرة الأقل والأكثر فيؤخذ من الفقير المعتمل اثنا عشر درهما ومن المتوسط اربعة وعشرون ومن الموسر ثمانية وأربعون.قال حرب في مسائله سألت أبا عبدالله قلت خراج الرءوس إذا كان الذمي غنيا؟ قال ثمانية وأربعون درهما قلت فإن كان دون ذلك؟ قال أربعة وعشرون قلت فإن كان دون ذلك؟ قال اثنا عشر قلت فليس دون اثني عشر شيء؟ قال لا.وقال في رواية ابنه صالح وإبراهيم بن هانئ وأبي الحارث أكثر ما يؤخذ في الجزية ثمانية وأربعون والمتوسط أربعة وعشرون والفقير اثنا عشر زاد في رواية أبي الحارث أن عمر ضرب على الغني ثمانية وأربعين وعلى الفقير اثني عشر:قال الخلال والذي عليه من قول أبي عبدالله أن للإمام أن يزيد في ذلك وينقص وليس لمن دونه أن يفعل ذلك.وقد روى يعقوب بن بختان خاصة عن أبي عبدالله أنه لا يجوز للإمام أن ينقص من ذلك.وروى عن أبي عبدالله أصحابه في عشرة مواضع أنه لا بأس بذلك.قال ولعل أبا عبدالله تكلم بهذا في وقت والعمل من قوله على ما رواه الجماعة أنه لا بأس ولإمام أن يزيد في ذلك وينقص وقد أشبع الحجة في ذلك.وقال الأثرم سمعت أبا عبدالله يسأل عن الجزية كم هي قال وضع.عمر رضي الله عنه ثمانية وأربعين وأربعة وعشرين واثني عشر قيل له كيف هذا؟ قال على قدر ما يطيقون قيل فيزداد في هذا اليوم وينقص؟ قال نعم يزاد فيه وينقص على قدر طاقتهم وعلى قدر ما يرى الإمام.وقال أبو طالب سألت أبا عبدالله عن حديث عثمان بن حنيف تذهب إليه بالجزية؟ قال نعم قلت ترى الزيادة؟ قال لمكان قول عمر رضي الله عنه فإن زاد فأرجو أن لا بأس إذا كانوا مطيقين مثل ما قال عمر رضي الله عنه.
|